كل شيءِ يبدو غريباً و غيرَ مألوف! أناسٌ كثيرون .. وجوهٌ غريبة .. طلابٌ على عجلة من أمرهم .. مجموعات من الناس مبعثرةٌ هنا و هناك .. طالبات يثرثرن وبتبادلن الضحكات .. أشعر أني ضائعةٌ في هذا المكان .. كم تبدو فكرة الرجوع من حيث اتيت لامعةً الآن .. ما هذا اليوم؟! كأني طفلة تركتها والدتها في يومها المدرسي الأول! لماذا يحملق الجميع بي هكذا؟! هل أبدو تائهة إلى هذا الحد؟ حسناً سآخذ نفساً عميقاً وأبدا بالبحث عن مكاني .. سأسأل عن مكان قسمي أو بالأحرى محاضراتي.
لا انكر أني غضبت عندما كررت نفس السؤال مرارا وكنت أتلقي ردة الفعل نفسها على وجوه من سألتهن مع نفس الإجابة العقيمة "انتِ سنة أولى؟!" نعم أيها القوم أنا في عامي الجامعي الأول بل تحديداً في اليوم الأول ما هو المضحك في هذا؟!
أخيراً وجدت ما أبحث عنه .. قلت لنفسي "حسناً سأذهب و أرى جدول محاضرتي الآن .. آمل ألا أكون قد تأخرت كثيراً" .. أخذت أبحث و أبحث حتى وجدته .. و المضحك أني لم أفهم شيئاً أبداً! كانت تبدو أسماء المواد غير مألوفةٍ بالنسبة لي .. حدثت نفسي قائلةً "أنا سأدرس هذه المواد؟! يال المأساة! أنا لا أفهم حتى ما تعنيه أسماؤها؟!" رفعت رأسي عن الجدول لأرى فتاة جميلة ترتدي نظاراتٍ شمسية هذه التي كنت اعتبرها ترفيهاً في ذلك الوقت، كانت في كامل زينتها و سألتني بصوتها الناعم "لو سمحتِ .. انتِ في قسم ايه؟" لم أجب عليها و صمتت قليلاً حتى أتت فتاة أخرى تشبهها تبدو في عجلة من أمرها و قالت "إعلام زيك يا زهراء .. روحوا بقى المحاضرات مع بعض" ابتسمت عندما رأيت الفتاة الثانية وعرفت أن "زهراء" في نفس قسمي و هي تائهةٌ أيضاً فقررت أن أذهب معها و أنا اتمتم "يا إلهي هل ستكون هذه الفتاة المدللة رفيقتي؟! ليتها كانت الثانية".
عندما أتذكر هذا اليوم أنفجر ضاحكةً .. أنا أذكر يومي الجامعي الأول بكل تفاصيله الدقيقة .. أذكر كم كنت متلعثمة في كلامي .. أذكر كم كانت خطواتي سريعة .. أذكر وجهي العابس دائماً .. أذكر محاضرتي الأولى و لو تحدث عنها لكان كتاباً هزلياً مليئاً بالنكات و ردات الفعل المضحكة .. أذكر كيف كانت تبدو هذه الفتاة المدللة التي أصبحت الآن أعز صديقاتي و أقرب إلى قلبي من عقلي.
كم كنت أرى يوم التخرج بعيداً حينها! لم أكن أدرك أنه لا يوجد أسرع من الأيام .. كان حري بيَ ألا أتسابق معها فهي سريعة جدا و تسبق كل من كان .. أهٍ أيها الزمان العجول .. ألم يكن بوسعك الإنتظار قليلاً حتى أشبع من جامعتي وأصدقائي؟! .. كنت أنظر لصديقاتي في آخر امتحان لنا و أرى أعينهن تترقرق بالدموع .. كن يعانقنني بشدة مرددين عبارات الوداع .. و حتى الآن لا استطيع حل لغز جسدي الذي كان يتيبس كلما عانقتني احداهن مكررةً نفس الجملة "هتوحشينا يا زينب"! و عند هذه الجملة بالذات تتصارع أفكاري ما بين أمرين احداهما هو بعنوان "ليس هذا هو الوداع" و الآخر بعنوان "لما المبالغة في الأمر؟".
صدق من قال "الجامعة هي من أروع المراحل التعليمية التي يمر بها المرء" هي فعلاً كذلك بالنسبة لي .. فيها تجمعت أجمل صحبةٍ لي في حياتي .. لم أرى الخبث أو الكره أو الحقد في أعين واحدة منهن .. دائماً يُسمعنني أفضل الكلمات .. يكن بجانبي عند الحزن والفرح الضعف والقوة النجاح والفشل .. صممت كل واحدة منهن مكاناً جميلاً في قلبي يوجد به ما تحبه وأحبه و ما بيننا من أسرار ومناقشات ولعب وجد، هذا المكان لا يوجد به سوى الجمال و الحب و النقاء .. اريحوا بالكن يا صديقاتي فمكان كل واحدة منكن محفوظ ما حييت.
ها أنا الآن أنهي فترة أخرى من عمري و مرة أخرى تختلط عليَ مشاعر الحزن والسرور .. ها أنا الآن أختم هذا الفصل من كتاب حياتي بكل ما فيه من مواقف وعبرات ولحظات سعادة وشجن .. ها أنا الآن أقاوم رغبتي في البقاء في صفحات الفصل لأن طي الصفحات هو سنة الحياة .. و ها أنا الآن أدخل في فصل جديد و أبدأ في كتابة تفاصيله فـ "نقطة ومن أول السطر".